أنقرة / PNN - عادت تركيا لتؤدي دورًا محوريًا وفعّالًا في جهود الوساطة لإنهاء حرب الإبادة على قطاع غزة، في إطار خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب التي طُرحت في نهاية شهر أيلول/سبتمبر الماضي. ومع الإعلان عن وقف إطلاق النار وبدء عملية تبادل الأسرى والمخطوفين بين حركة حماس وإسرائيل، والحديث عن تفاصيل المرحلة الثانية من الاتفاق، يُتوقَّع أن تلعب تركيا دورًا مركزيًا في مسار المفاوضات، وربما في تنفيذ الاتفاق أيضًا.وهنا يبرز السؤال: هل ستقود عودة تركيا إلى المشهد الدبلوماسي، ودورها كوسيط بين حماس وإسرائيل، إلى جانب العلاقات الخاصة التي تجمع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان – كما يؤكد ترامب نفسه – إلى تحريك ملف استئناف العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وتركيا؟ وهل نشهد عودة التبادل التجاري بين الدولتين بعد فترة من التعطّل، وإن لم يكن التجميد كاملًا؟دخل حظر العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل حيّز التنفيذ تدريجيًا خلال شهري نيسان/أبريل وأيار/مايو 2024، وشمل في مرحلته الأولى منع تصدير 54 فئة من المنتجات التركية إلى إسرائيل، كان أبرزها مواد البناء والحديد والزجاج والإسمنت. ولاحقًا، تم توسيع نطاق الحظر ليشمل عقوبات على مجمل التبادل التجاري بين البلدين.وفي فترة زمنية قصيرة، تراجعت الواردات الإسرائيلية من تركيا بأكثر من النصف، وفقًا لمعطيات دائرة الإحصاء الإسرائيلية، من نحو 4.6 مليارات دولار عام 2023 (أي ما نسبته 5% من إجمالي الواردات الإسرائيلية) إلى ما يزيد قليلًا على ملياري دولار فقط عام 2024، أي ما يعادل نحو 2.2% من مجمل الاستيراد إلى إسرائيل. ويُعدّ هذا المستوى الأدنى منذ عام 2010.حتى موعد فرض حظر العلاقات الاقتصادية وتوقّف الرحلات الجوية، كانت تركيا قد استفادت من نحو 824 ألف زيارة من السياح الإسرائيليين خلال عام 2022، وذلك وفقًا لتقرير خاص أصدره بنك إسرائيل في تشرين الأول/أكتوبر 2025 حول طبيعة العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل وتركيا.كذلك، تراجعت الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا، التي كانت تتركّز أساسًا في المنتجات الكيميائية والبلاستيكية والمعدنية. فبينما بلغت قيمة الصادرات الإسرائيلية إلى تركيا نحو 1.4 مليار دولار عام 2020، ارتفعت إلى حوالي 1.55 مليار دولار عام 2023، إلا أنها تراجعت بشكل حاد عام 2024 إلى نحو الثلث فقط، لتبلغ حوالي 600 مليون دولار.على الرغم من تجميد العلاقات التجارية بين تركيا وإسرائيل، فإن التبادل التجاري بين البلدين لم يتوقف كليًا، وإن كان قد تراجع بشكل كبير. فقد كان من المتوقع أن يُلحق قرار التجميد ضررًا بالغًا بقطاع البناء في إسرائيل نتيجة ارتفاع أسعار مواد البناء، إذ تعتمد السوق الإسرائيلية بدرجة كبيرة على استيراد المواد الأولية من تركيا. فقد شكّلت تركيا قبل الحظر نحو نصف واردات إسرائيل من الإسمنت والجبس ومشتقاتهما، إضافةً إلى قرابة خُمس وارداتها من الحديد والصلب.شكّل هذا التحوّل مصدر قلق حقيقي لقطاع البناء الإسرائيلي، الذي اعتمد لسنوات طويلة على استيراد المواد الخام ومنتجات التشطيب من تركيا. غير أن الأزمة كشفت في الوقت ذاته عن قدرٍ كبير من مرونة الاقتصاد الإسرائيلي، إذ تمكّن المستوردون خلال فترة وجيزة لا تتجاوز بضعة أشهر من إيجاد موردين بديلين في اليونان وإيطاليا وقبرص والصين وتايلند، كما نجحوا – إلى حدٍّ ما – في الالتفاف على قرار تجميد الصادرات التركية.على أرض الواقع، وبخلاف التوقعات الأولية، كان تأثير الحظر التركي على الواردات الإسرائيلية وأسعارها محدودًا نسبيًا. ويُظهر ذلك، وفقًا لتقرير بنك إسرائيل، أهمية الأسواق النشطة وسياسات التجارة المفتوحة في تعزيز الأمن الاقتصادي.كما أشارت التقارير إلى أن بعض الصادرات التركية التي حظرتها الحكومة في أنقرة والموجّهة أساسًا إلى إسرائيل، جرى تسجيلها رسميًا كصادرات إلى أسواق أخرى، من بينها السوق الفلسطينية، في ما يبدو أنه آلية التفاف غير مباشرة على القيود التجارية.تشير صحيفة "غلوبس" الاقتصادية، في عددها الصادر بتاريخ 26 أيلول/سبتمبر 2025، إلى أن التجار الإسرائيليين وجدوا طرقًا متعددة للالتفاف على قرار تجميد الصادرات التركية إلى إسرائيل، تمثلت أولًا في التوجّه إلى أسواق بديلة للاستيراد، وثانيًا في الاستيراد غير المباشر من تركيا عبر وسطاء في دول عربية مجاورة.ومن بين أبرز الأسواق البديلة التي لجأت إليها إسرائيل لتعويض النقص في المنتجات التركية كانت تايلند، حيث بلغت قيمة الواردات منها بين شهري كانون الثاني/يناير وتموز/يوليو 2025 نحو 798 مليون دولار، مقارنة بـ337 مليون دولار فقط خلال الفترة المماثلة من عام 2024 — أي زيادة تفوق الضعف.أما الواردات من الأردن، فقد بلغت خلال الفترة نفسها أكثر من 323 مليون دولار، مقابل أقل من 200 مليون دولار في الفترة المقابلة من عام 2024. وفي المقابل، ارتفعت الواردات من مصر من 136 مليون دولار إلى 187 مليون دولار خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2025، مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. الفرضية السائدة، وفقًا للصحيفة، هي أن هذه ليست سوى قنوات جديدة تمرّ من خلالها المنتجات التركية نفسها إلى إسرائيل، والتي يُضاف إليها في أحسن الأحوال ملصق محلي جديد.كذلك لعبت أسواق السلطة الفلسطينية دورًا مهمًا في الالتفاف على الحظر التركي، لا سيما خلال الأشهر الأولى من تطبيقه. فهذه الأسواق، التي كانت بالكاد تستورد منتجات تركية بشكل مباشر قبل قرار الحظر، بدأت بعده باستيراد بضائع من تركيا بقيمة تقديرية بلغت نحو 180 مليون دولار شهريًا. غير أن هذا المستوى من التبادل تراجع لاحقًا إلى نحو 50 مليون دولار شهريًا، بعد أن بدأت الحكومة التركية، قبل نحو عام، تطالب السلطة الفلسطينية بإرفاق مستندات رسمية تؤكد أن البضائع التركية مخصّصة حصريًا للسوق الفلسطينية، في محاولة للحدّ من استخدامها كقناة التفافية غير مباشرة لتصدير المنتجات التركية إلى إسرائيل.ويبدو أن الحكومة التركية تغضّ الطرف عن هذه الوقائع في ضوء تفاقم الأزمة الاقتصادية التي تمرّ بها البلاد، وسعيها لتخفيف آثارها عبر استمرار تدفّق الصادرات – ولو بشكل غير مباشر.وبحسب تقرير بنك إسرائيل، فإن الضرر الذي لحق بالاقتصاد والأسواق الإسرائيلية نتيجة الحظر التركي كان محدودًا نسبيًا، إذ تمكّنت إسرائيل من الالتفاف على القيود التجارية وإيجاد بدائل فعّالة في أسواق أخرى. في المقابل، كان الأثر السلبي على الاقتصاد التركي أكبر بكثير، نظرًا إلى أن حجم الصادرات التركية إلى إسرائيل يفوق بكثير حجم الواردات منها، فضلًا عن أن الاقتصاد التركي يعاني أصلًا من أزمة هيكلية مزمنة خلال السنوات الأخيرة، ما جعل قرار الحظر عبئًا إضافيًا على قطاع التصدير التركي وعلى ميزان المدفوعات.تواجه تركيا خلال السنوات الأخيرة أزمة اقتصادية متفاقمة، تتجلّى في معدلات تضخّم مرتفعة وتراجع حاد في قيمة الليرة التركية، ما انعكس سلبًا على مختلف قطاعات الاقتصاد والإنتاج.من مؤشرات الأزمة في الاقتصاد التركي خلال السنوات الأخيرة:شهدت الصادرات التركية تراجعًا ملحوظًا في الأعوام الأخيرة، وتراجعت معها قدرة المنتجات التركية على المنافسة في الأسواق العالمية.فقد انخفضت صادرات قطاع الأزياء بنسبة 7% لتصل إلى 18 مليار دولار عام 2024، كما تراجعت صادرات منتجات الجلود بنسبة 18% لتبلغ 1.5 مليار دولار فقط. وأدّى ذلك إلى فقدان نحو 250 ألف وظيفة في قطاع النسيج بين عامي 2022 و2024، إضافة إلى إغلاق نحو 2000 مصنع في عام 2024 وحده.استمر خلال عام 2025 خروج الشركات الأجنبية أو تقليص نشاطها في تركيا، في ظل تدهور بيئة الأعمال وارتفاع التكاليف التشغيلية.ومن أبرز الأمثلة على ذلك شركة الشحن الألمانية "هاباغ-لويد" (Hapag-Lloyd)، التي قررت إغلاق مركزها الدولي في مدينة إزمير ونقله إلى العاصمة الماليزية كوالالمبور في آب/أغسطس 2025، مما أدى إلى تسريح نحو 300 موظف.بحسب بيانات اتحاد غرف التجارة والصناعة التركي، تم خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2025 إغلاق 11,108 شركات، بزيادة 12% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2024. وفي أيار/مايو 2025 وحده، أُغلقت 2,921 شركة، أي بزيادة قدرها 13.2% عن شهر نيسان/أبريل.ويعاني الاقتصاد التركي من مستويات مرتفعة جدًا من التضخّم المالي، أدّت إلى تآكل القدرة الشرائية للمواطنين وتراجع مستوى المعيشة. فقد بلغ معدّل التضخّم السنوي ذروته عند 78.6% في تموز/يوليو 2022، بينما تراوح المعدّل السنوي بين 35% و85% منذ كانون الأول/ديسمبر 2021 وحتى عام 2025.وفي الوقت نفسه، فقدت الليرة التركية نحو 20% من قيمتها مقابل الدولار الأميركي منذ بداية عام 2021، واستمر ضعفها خلال عامي 2024 و2025. وقد أدّى هذا التراجع الحاد إلى تضاعف أسعار المواد الغذائية وارتفاع تكاليف النقل بنسبة 123%.في ظل هذا الواقع، حيث كان الضرر الذي لحق بالاقتصاد الإسرائيلي محدودًا نسبيًا، وتمكّنت إسرائيل من إيجاد بدائل للصناعات والمنتجات التركية، إضافة إلى الالتفاف على قرار التجميد واستمرار استيراد بعض السلع التركية عبر أطراف ثالثة، ومع تدهور الأوضاع الاقتصادية في تركيا من جهة، ورغبة أنقرة في لعب دور دبلوماسي أكبر في جهود وقف الحرب على غزة وفي تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار من جهة أخرى، بدأت تصدر تلميحات إسرائيلية حول احتمال استئناف العلاقات الاقتصادية والتجارية بين البلدين، إلى جانب إمكانية استئناف حركة الطيران المتوقفة بين إسرائيل وتركيا.المصدر / عرب 48